لا شك في وجود فرق كبير بين رواية ( الحديث ) ورواية ( الأخبار الأخرى ) ، فالأولى تبنى عليها الأحكام وإقامة الحدود ، فهي تتصل مباشرة بأصل من أصول التشريع ، ومن هنا تحرز العلماء -رحمهم الله - في شروط من تؤخذ عنه الرواية .
بينما يختلف الأمر بالنسبة لرواية الأخبار، فهي وإن كانت مهمة - لا سيما حينما يكون مجالها الإخبار عن الصحابة - إلا أنها لا تمحص كما يمحص الحديث هنا، فلا بد من مراعاة هذا القياس على الإخباريين .
ولما كان من العسير تطبيق منهج المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية ، لكونها لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة.
من أجل ذلك فرق أصحاب هذا المنهج بين ما يُتَشدد فيه من الأخبار و بين ما يُتَساهل فيه تبعاً لطبيعة ما يُروى ، فإذا كان المروي متعلقاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم- أو بأحد من الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه يجب التدقيق في رواته والاعتناء بنقدهم .
ويلحق بهذا ما إذا كان الأمر متعلقاً بتجريح أحد من العلماء والأئمة - ممن ثبتت عدالته - أو تنقصهم وتدليس حالهم على الناس، لأن كل من ثبتت عدالته لا يقبل جرحه إلا ببينة واضحة، يضاف إلى ذلك الأمور المتعلقة بقضايا الاعتقاد أو التحليل والتحريم في الأحكام الشرعية، فإنه لابد من التثبت من حال الرواة ومعرفة النقلة، ولا يؤخذ في هذا الباب إلا من الثقات الضابطين .
أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء مما سبق، فإنه يُتَساهل فيه. وهذا لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة ، لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلاً ، و إنما المقصود بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط ، أو التغّير والاختلاط ، ونحو ذلك ، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة ، ووفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب - مع التنبيه على ضعف الحديث - .
وبناء على ذلك يرى أصحاب هذا المنهج عندئذ قبول الروايات التاريخية الضعيفة، فيستشهد بها ، لأنها قد تشترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة ، وربما يُستدل بها على بعض التفصيلات ويتم الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق سنداً.
وهذا ما أشار إليه الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه "دراسات تاريخية": من أن اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة فيه تعسف كبير، والخطر الناجم عنه ليس بيسير ، لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث ، بل تم التساهل فيها ، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثِّل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا، مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع، ويبقى منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية ، وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنه خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا.
فالحافظ ابن حجر مثلاً عند الجمع والترجيح بين الروايات في كتابه الفتح، يرفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث ، ويرفض رواية الواقدي ، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلاً عن غيرهما من الإخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة و المدائني ، ومع ذلك فإنه قد يستشهد برواياتهم، ويستدل بها على بعض التفصيلات ، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً، وذلك من أجل بناء الصورة التاريخية الصحيحة.
وهذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالتاريخ والسير، وهو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا روايتهم في الأحكام الشرعية ، فنجد ابن حجر يقول عن محمد بن إسحاق في "طبقات المدلسين" : إمام في المغازي صدوق يدلس . و يقول عن الواقدي في "التقريب" : متروك مع سعة علمه. ويقول عن سيف بن عمر التميمي ، - صاحب كتاب "الردة" - كما في تقريب التهذيب: ضعيف في الحديث ، عمدة في التاريخ .
وعليه فمنهج المحدثين وإن لم يطبق تماماً على الروايات التاريخية، لكنه قدم خدمة عظيمة جليلة، تتمثل في التحري والتدقيق والتحقيق والنقد، فأضاف الكثير وجمع التاريخ الصحيح المبني على الأصول والقواعد، البعيد عن الأهواء، والنزعات، والله ولي التوفيق.
وتقبلوا خالص تحيا تى /// محمدالمصرى